كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن هذا تفرّعت شعب نظام المعاملات الاجتماعية من آداب، وحقوق وأقضية، وشهادات، ومعاملة مع الأمم، قال تعالى: {ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [سورة المائدة: 8].
ومرجع تفاصيل العدل إلى أدلّة الشريعة.
فالعدل هنا كلمة مُجملة جامعة فهي بإجمالها مناسبة إلى أحوال المسلمين حين كانوا بمكّة، فيصار فيها إلى ما هو مقرّر بين الناس في أصول الشرائع وإلى ما رسمته الشريعة من البيان في مواضع الخفاء، فحقوق المسلمين بعضهم على بعض من الأخوّة والتناصح قد أصبحت من العدل بوضع الشريعة الإسلامية.
وأما الإحسان فهو معاملة بالحسنى ممن لا يلزمه إلى من هو أهلها.
والحسَن: ما كان محبوبًا عند المعامَل به ولم يكن لازمًا لفاعله، وأعلاه ما كان في جانب الله تعالى مما فسّره النبي بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
ودون ذلك التقرّب إلى الله بالنوافل.
ثم الإحسان في المعاملة فيما زاد على العدل الواجب، وهو يدخل في جميع الأقوال والأفعال ومع سائر الأصناف إلا ما حُرم الإحسانَ بحكم الشرع.
ومن أدْنى مراتب الإحسان ما في حديث الموطأ: «أن امرأة بَغِيّا رأت كلبًا يلهث من العطش يأكل الثّرى فنزعت خُفَّها وأدْلَتْه في بئر ونزعت فسقته فغفر الله لها».
وفي الحديث: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِبْحة» ومن الإحسان أن يجازي المحسَنُ إليه المحسِن على إحسانه إذ ليس الجزاء بواجب.
فإلى حقيقة الإحسان ترجع أصول وفروع آداب المعاشرة كلها في العائلة والصحبة.
والعفوُ عن الحقوق الواجبة من الإحسان لقوله تعالى: {والعافيّن عن الناس والله يحبّ المحسنين} [سورة آل عمران: 134].
وتقدم عند قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا} في سورة الأنعام (151).
وخَصّ الله بالذّكر من جنس أنواع العدل والإحسان نوعًا مُهمًّا يكثر أن يغفل الناس عنه ويتهاونوا بحقّه أو بفضله، وهو إيتاء ذي القربى فقد تقرّر في نفوس الناس الاعتناء باجتلاب الأبعدِ واتّقاء شرّه، كما تقرّر في نفوسهم الغفلة عن القريب والاطمئنان من جانبه وتعوّد التساهل في حقوقه.
ولأجل ذلك كثر أن يأخذوا أموال الأيتام من مواليهم، قال تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم} [سورة النساء: 2]، وقال: {وآت ذا القربى حقّه} [سورة الإسراء: 26]، وقال: {وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء} [سورة النساء: 127]. الآية.
ولأجل ذلك صرفوا معظم إحسانهم إلى الأبْعدين لاجتلاب المحمدة وحسن الذّكر بين الناس.
ولم يزل هذا الخلق متفشّيًا في الناس حتى في الإسلام إلى الآن ولا يكترثون بالأقربين.
وقد كانوا في الجاهلية يقصدون بوصايا أموالهم أصحابهم من وجوه القوم، ولذلك قال تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين} [سورة البقرة: 180].
فخصّ الله بالذكر من بين جنس العدل وجنس الإحسان إيتاء المال إلى ذي القربى تنبيهًا للمؤمنين يومئذٍ بأن القريب أحقّ بالإنصاف من غيره.
وأحقّ بالإحسان من غيره لأنه محل الغفلة ولأن مصلحته أجدى من مصلحة أنواع كثيرة.
وهذا راجع إلى تقويم نظام العائلة والقبيلة تهيئةً بنفوس الناس إلى أحكام المواريث التي شرعت فيما بعد.
وعطف الخاص على العام اهتمامًا به كثير في الكلام، فإيتاء ذي القربى ذو حكمين: وجوب لبعضه، وفضيلة لبعضه، وذلك قبل فرض الوصية، ثم فرض المواريث.
وذو القربى: هو صاحب القرابة، أي من المؤتي.
وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} في سورة الأنعام (152).
والإيتاء الإعطاء.
والمراد إعطاء المال، قال تعالى: {قال أتمدّونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم} [سورة النمل: 76]، وقال: {وآتى المال على حبّه} [سورة البقرة: 177].
ونهى الله عن الفحشاء والمنكر والبغي وهي أصول المفاسد.
فأما الفحشاء: فاسم جامع لكل عمل أو قول تستفظعه النفوس لفساده من الآثام التي تفسد نفس المرء: من اعتقاد باطل أو عمل مفسد للخلق، والتي تضرّ بأفراد الناس بحيث تلقي فيهم الفساد من قتل أو سرقة أو قذف أو غصب مال، أو تضرّ بحال المجتمع وتدخل عليه الاضطراب من حرابة أو زنا أو تقامر أو شرب خمر.
فدخل في الفحشاء كل ما يوجب اختلال المناسب الضروري، وقد سمّاها الله الفواحش.
وتقدم ذكر الفحشاء عند قوله تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء} في سورة البقرة (169)، وقوله: {قل إنما حرّم ربّي الفواحش} في سورة الأعراف (33) وهي مكية.
وأما المنكر فهو ما تستنكره النفوس المعتدلة وتكرهه الشريعة من فعل أو قول، قال تعالى: {وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا} [سورة المجادلة: 2]، وقال: {وتأتون في ناديكم المنكر} [سورة العنكبوت: 29].
والاستنكار مراتب، منها مرتبة الحرام، ومنها مرتبة المكروه فإنه منهيّ عنه.
وشمل المنكر كل ما يفضي إلى الإخلال بالمناسب الحاجي، وكذلك ما يعطّل المناسب التحسيني بدون ما يفضي منه إلى ضرّ.
وخصّ الله بالذّكر نوعًا من الفحشاء والمنكر، وهو البغي اهتمامًا بالنّهي عنه وسدًّا لذريعة وقوعه، لأن النفوس تنساق إليه بدافع الغضب وتغفل عما يشمله من النهي من عموم الفحشاء بسبب فُشُوّه بين الناس؛ وذلك أن العرب كانوا أهل بأس وشجاعة وإباء، فكانوا يكثر فيهم البغي على الغير إذا لقي المُعجَب بنفسه من أحد شيئًا يكرهه أو معاملةً يعُدّها هضيمة وتقصيرًا في تعظيمه.
وبذلك كان يختلط على مُريد البغي حُسْنُ الذبّ عما يسمّيه الشرف وقُبْحُ مجاوزة حدّ الجزاء.
فالبغيُ هو الاعتداء في المعاملة، إما بدون مقابلة ذنب كالغارة التي كانت وسيلة كسب في الجاهلية، وإما بمجاوزة الحدّ في مقابلة الذنب كالإفراط في المؤاخذة، ولذا قال تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتّقوا الله} [سورة البقرة: 194].
وقال: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغِيَ عليه لينصرنّه الله} [سورة الحج: 60].
وقد تقدم عند قوله تعالى: {والإثم والبغي بغير الحقّ} في سورة الأعراف (33).
فهذه الآية جمعت أصول الشريعة في الأمر بثلاثة، والنهي عن ثلاثة، بل في الأمر بشيئين وتكملة، والنّهي عن شيئين وتكملة.
روى أحمد بن حنبل: أن هذه كانت السبب في تمكّن الإيمان من عثمان بن مظعون، فإنها لما نزلت كان عثمان بن مظعون بجانب رسول الله وكان حديثَ الإسلام، وكان إسلامه حياء من النبي وقرأها النبي عليه.
قال عثمان: فذلك حين استقرّ الإيمان في قلبي.
وعن عثمان بن أبي العاص: كنت عند رسول الله جالسًا إذ شخص بصره، فقال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع {إن الله يأمر بالعدل} الآية اهـ.
وهذا يقتضي أن هذه الآية لم تنزل متّصلة بالآيات التي قبلها فكان وضعها في هذا الموضع صَالحًا لأن يكون بيانًا لآية {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} [سورة النحل: 89]. إلخ، ولأن تكون مقدّمة لما بعدها: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} [سورة النحل: 91]. الآية.
وعن ابن مسعود: أن هذه الآية أجمع آية في القرآن.
وعن قتادة: ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به في هذه الآية، وليس من خلق كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدح فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها.
وروى ابن ماجه عن عليّ قال: أمر الله نبيئه أن يعرض نفسه على قبائل العرب، فخرج، فوقف على مجلس قوم من شيبان بن ثعلبة في الموسم.
فدعاهم إلى الإسلام وأن ينصروه، فقال مفروق بن عمرو منهم: إلاَم تدعونا أخا قريش، فتلا عليهم رسول الله: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الآية.
فقال: دعوتَ والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذّبوك وظاهروا عليك.
وقد روي أن الفقرات الشهيرة التي شهد بها الوليد بن المغيرة للقرآن من قوله: «إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بكلام بشر» قالها عند سماع هذه الآية.
وقد اهتدى الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى ما جمعته هذه الآية من معاني الخير فلما استخلف سنة 99 كتب يأمر الخطباء بتلاوة هذه الآية في الخطبة يوم الجمعة وتُجعل تلاوتها عوضًا عما كانوا يأتونه في خطبة الجمعة من كلمات سبّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
وفي تلاوة هذه الآية عوضًا عن ذلك السبّ دقيقةُ أنها تقتضي النّهي عن ذلك السبّ إذ هو من الفحشاء والمنكر والبغي.
ولم أقف على تعيين الوقت التي ابتدع فيه هذا السبّ ولكنه لم يكن في خلافة معاوية رضي الله عنه.
وفي السيرة الحلبية أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام ألّف كتابًا سماه الشجرة بيّن فيه أن هذه الآية اشتملت على جميع الأحكام الشرعية في سائر الأبواب الفقهية وسمّاه السبكي في الطبقات شجرة المعارف.
وجملة {يعظكم} في موضع الحال من اسم الجلالة.
والوعظ: كلام يقصد منه إبعاد المخاطب به عن الفساد وتحريضه على الصلاح.
وتقدم عند قوله تعالى: {فأعرض عنهم وعظهم} في سورة النساء (63).
والخطاب للمسلمين لأن الموعظة من شأن من هو محتاج للكمال النفساني، ولذلك قارنها بالرجاء ب {لعلكم تذَّكرون}.
والتذكر: مراجعة المنسيّ المغفول عنه، أي رجاء أن تتذكروا، أي تتذكروا بهذه الموعظة ما اشتملت عليه فإنها جامعة باقية في نفوسكم.
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)}.
لما أمر الله المؤمنين بملاك المصالح ونهاهم عن ملاك المفاسد بما أومأ إليه قوله: {يعظكم لعلكم تذكرون} [سورة النحل: 90].
فكان ذلك مناسبة حسنة لهذا الانتقال الذي هو من أغراض تفنّن القرآن، وأوضح لهم أنهم قد صاروا إلى كمال وخير بذلك الكتاب المبيّن لكل شيء.
لا جرم ذكرهم الوفاء بالعهد الذي عاهدوا الله عليه عندما أسلموا، وهو ما بايعوا عليه النبي مما فيه: أن لا يعصوه في معروف.
وقد كان النبي يأخذ البيعة على كل من أسلم من وقت ابتداء الإسلام في مكّة.
وتكررت البيعة قبيل الهجرة وبعدها على أمور أخرى، مثل النّصرة التي بايع عليها الأنصار ليلة العقبة، ومثل بيعة الحديبية.
والخطاب للمسلمين في الحفاظ على عهدهم بحفظ الشريعة، وإضافة العهد إلى الله لأنهم عاهدوا النبي على الإسلام الذي دعاهم الله إليه، فهم قد عاهدوا الله كما قال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} [سورة الفتح: 10]، وقال: {من المؤمنين رجال صَدقوا ما عاهدوا الله عليه} [سورة الأحزاب: 23].
والمقصود: تحذير الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام من أن ينقضوا عهد الله.
و{إذا} لمجرّد الظرفية، لأنّ المخاطبين قد عاهدوا الله على الإيمان والطاعة، فالإتيان باسم الزمان لتأكيد الوفاء.
فالمعنى: أن من عاهد وجب عليه الوفاء بالعهد.
والقرينة على ذلك قوله: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلًا} [سورة النحل: 91]، والعهد: الحلف.
وتقدّم في قوله تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}.
وكذلك النقض تقدم في تلك الآية، ونقض الأيمان: إبطال ما كانت لأجله.
فالنقض إبطال المحْلوف عليه لا إبطال القسم، فجُعِل إبطال المحلوف عليه نقضًا لليمين في قوله: {ولا تنقضوا الأيمان} تهويلًا وتغليظًا للنّقض لأنه نقض لحرمة اليمين.
و{بعد توكيدها} زيادة في التحذير، وليس قيْدًا للنّهي بالبعدية، إذ المقصود أيمان معلومة وهي أيمان العهد والبيعة، وليست فيها بعدية.
و{بعد} هنا بمعنى {مع}، إذ البعدية والمعيّة أثرهما واحد هنا، وهو حصول توثيق الأيمان وتوكيدها، كقول الشميذر الحارثي:
بني عمّنا لا تذكروا الشعر بعدما ** دفنتم بصحراء الغُمَيْر القوافيا

أي لا تذكروا أنّكم شعراء وأن لكم شعرًا، أو لا تنطقوا بشعر مع وجود أسباب الإمساك عنه في وقعة صحراء الغُمير، وقوله تعالى: {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} [سورة الحجرات: 11]، وقوله: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}.
والتّوكيد: التوثيق وتكرير الفتل، وليس هو توكيد اللفظ كما توهّمه بعضهم فهو ضدّ النقض.
وإضافته إلى ضمير الأيمان ليس من إضافة المصدر إلى فاعله ولا إلى مفعوله إذ لم يقصد بالمصدر التجدّد بل الاسم، فهي الإضافة الأصلية على معنى اللام، أي التوكيد الثابت لها المختصّ بها.
والمعنى: بعد ما فيها من التوكيد، وبيّنه قوله: {وقد جعلتم الله عليكم كفيلًا}.
والمعنى: ولا تنقضوا الأيمان بعد حلفها.
وليس في الآية إشعار بأن من اليمين ما لا حرج في نقضه، وهو ما سمّوه يمين اللّغو، وذلك انزلاق عن مهيع النظم القرآني.
ويؤيّد ما فسرناه قوله: {وقد جعلتم الله عليكم كفيلًا} الواقع موقع الحال من ضمير {لا تنقضوا}، أي لا تنقضوا الأيمان في حال جعلكم الله كفيلًا على أنفسكم إذا أقسمتم باسمه، فإن مدلول القسم أنه إشهاد الله بصدق ما يقوله المقسم: فيأتي باسم الله كالإتيان بذات الشاهد.
ولذلك سُمّيَ الحلف شهادة في مواضع كثيرة، كقوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين} [سورة النور: 6].
والمعنى أن هذه الحالة أظهر في استحقاق النّهي عنها.
والكفيل: الشاهد والضامن والرقيب على الشيء المراعى لتحقيق الغرض منه.
والمعنى: أن القسم باسم الله إشهاد لله وكفالة به.